فصل: باب {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ} (النساء: 23)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب الرضاع

باب ‏{‏وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِى أَرْضَعْنَكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏ وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ عليه السَّلام كَانَ عِنْدَهَا، وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ فِى بَيْتِ حَفْصَةَ، قَالَتْ‏:‏ فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِى بَيْتِكَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏أُرَاهُ فُلانًا‏)‏- لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ- قَالَتْ عَائِشَةُ‏:‏ ولَوْ كَانَ فُلانٌ حَيًّا- لِعَمِّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ دَخَلَ عَلَىَّ‏؟‏- فَقَالَ‏:‏ ‏(‏نَعَمْ، الرَّضَاعَةُ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلادَةُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قِيلَ لِلنَّبِىِّ عليه السَّلام أَلا تَتَزَوَّجُ ابْنَةَ حَمْزَةَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِى مِنَ الرَّضَاعَةِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِى سُفْيَانَ، قَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْكِحْ أُخْتِى بِنْتَ أَبِى سُفْيَانَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَوَتُحِبِّينَ ذَلِكِ‏)‏‏؟‏ فَقُلْتُ‏:‏ نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِى فِى خَيْرٍ أُخْتِى، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ ذَلِكِ لا يَحِلُّ لِى‏)‏، قُلْتُ‏:‏ فَإِنَّا نُحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ بِنْتَ أَبِى سَلَمَةَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ‏)‏‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ نَعَمْ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لَوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِى فِى حَجْرِى مَا حَلَّتْ لِى، إِنَّهَا لابْنَةُ أَخِى مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِى وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلا تَعْرِضْنَ عَلَىَّ بَنَاتِكُنَّ وَلا أَخَوَاتِكُنَّ‏)‏‏.‏

قَالَ عُرْوَةُ‏:‏ وثُوَيْبَةُ مَوْلاةٌ لأبِى لَهَبٍ كَانَ أَبُو لَهَبٍ أَعْتَقَهَا، فَأَرْضَعَتِ النَّبِىَّ عليه السَّلام فَلَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ، أُرِيَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ بِشَرِّ خِيبَةٍ، قَالَ لَهُ‏:‏ مَاذَا لَقِيتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ، غَيْرَ أَنِّى سُقِيتُ فِى هَذِهِ بِعَتَاقَتِى ثُوَيْبَةَ‏.‏

لا خلاف بين الأمة أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏، فإذا كانت الأم من الرضاع محرمة، كان كذلك زوجها، وصار أبًا لمن أرضعته زوجته؛ لأن اللبن منهما جميعًا، وإذا كان زوج التى أرضعت أبًا كان أخوه عمًا، وكانت أخت المرأة خالة، يحرم من الرضاع العمات، والخالات، والأعمام، والأخوال، والأخوات، وبناتهن، كما يحرم من النسب، هذا معنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة‏)‏‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ إذا أرضعت امرأة الرجل جارية حرمت على ابنه، وعلى أبيه، وعلى جده، وعلى بنى بنيه وبنى بناته، وعلى كل ولد ذكر، وولد ولده، وعلى كل جد له من قبل أبيه وأمه، وإذا كان المرضع غلامًا حرم الله عليه ولد المرأة التى أرضعته، وأولاد الرجل الذين أرضع هذا الصبى بلبنه، وهو زوج المرضعة، ولا تحل له عمته من الرضاعة ولا خالته، ولا بنت أخيه ولا بنت أخته من الرضاعة‏.‏

وأما قوله عليه السلام فى ابنة حمزة‏:‏ ‏(‏إنها ابنة أخى من الرضاعة‏)‏، فإن حمزة بن عبد المطلب عم النبى صلى الله عليه وسلم أرضعته ثويبة مولاة أبى لهب، ثم أرضعت بعده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الأسد، هذا قول مصعب الزبيرى، قال‏:‏ فكان أبو سلمة ورسول الله صلى الله عليه وسلم وحمزة بن عبد المطلب أخوة من الرضاعة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان حمزة أسن من النبى صلى الله عليه وسلم بسنتين، وقيل‏:‏ بأربع‏.‏

وأما قول أم حبيبة بنت أبى سفيان بن حرب زوج النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا رسول الله، انكح أختى، فإنها لم تعلم أن الجمع بين الأختين حرام، فكذلك قال لها ولسائر نسائه‏:‏ ‏(‏لا تعرضن علىّ بناتكن ولا إخواتكن، فإن بناتكن ربائب لى‏)‏، والربيبة حرام مثل الجمع بين الأختين، وأما قوله فى بنت أبى سلمة‏:‏ ‏(‏لو لم تكن ربيبتى فى حجرى ما حلت لى‏)‏، من أجل أن أباها أبا سلمة أخو النبى، عليه السلام، من الرضاعة، فكانت بنته حرامًا عليه؛ لأنها ربيبة النبى صلى الله عليه وسلم، وأنها بنت أخيه من الرضاعة‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ولا بأس أن يتزوج الرجل المرأة التى أرضعت ابنه، وكذلك يتزوج بنت المرأة التى هى رضيعة ابنه، ولأخى هذا الصبى المرضع أن يتزوج المرأة التى أرضعت أخاه، ويتزوج ابنتها التى هى رضيع أخيه، وما أراد من ولدها وولد ولدها، وإنما يحرم نكاحهن على المرضع، وهذا مذهب مالك، والكوفيين، والشافعى، وأبى ثور‏.‏

وذكر على بن المدينى، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهرى، أن أبا لهب أعتق جارية يقال لها‏:‏ ثويبة، وكانت أرضعت النبى صلى الله عليه وسلم، فرأى أبا لهب بعض أهله فى النوم فسأله، فقال‏:‏ ما وجدت بعدكم راحة، غير أنى سقيت فى هذه، وأشار إلى النقرة التى تحت إبهامه، بعتقى ثويبة، فبان برواية معمر أنه سقط من رواية البخارى فى هذا الحديث‏:‏ راحة، بعد قوله‏:‏ لم ألق بعدكم؛ لأنه لا يتم الكلام على ما رواه البخارى، وكذلك سقط منه‏:‏ وأشار إلى النقرة التى تحت إبهامه، ولا يقوم معنى الحديث إلا بذلك، ولا أعلم ممن جاء الوهم فيه‏.‏

وفى هذا الحديث من الفقه‏:‏ أن الكافر بالله قد يعطى عوضًا من أعماله التى يكون مثلها قربة لأهل الإيمان بالله، وذلك أن أبا لهب أخبر أنه سقى فى النار بعتقه ثويبة فى النقرة التى تحت إبهامه، وكان ذلك تخفيفًا له من العذاب، كما جاء أنه يخفف عن أبى طالب العذاب ويجعل فى ضحضاح من نار يغلى منه دماغه، غير أن التخفيف عن أبى لهب أقل من التخفيف عن أبى طالب؛ لأن أبا لهب كان مؤذيًا للنبى صلى الله عليه وسلم، فلم يقع له التخفيف بعتق ثويبة إلا بمقدار ما تحمل النقرة التى تحت إبهامه من الماء، وخفف عن أبى طالب أكثر من ذلك لنصرته للنبى صلى الله عليه وسلم وحياطته له، فدل هذا كله أن التخفيف عنهما مع كفرهما بالله تعالى الذى ماتا عليه كان لأجل ما أوقعاه من القربة وفعل الخير فى حال شركهما، ودل هذا على عظيم تفضل الله على عباده الكافرين‏.‏

وصح قول من تأول فى معنى الحديث الذى جاء عن الله تعالى‏:‏ ‏{‏أن رحمته سبقت غضبه‏)‏، أن رحمته لا تنقطع عن أهل النار المخلدين فيها، إذ فى قدرته تعالى أن يخلق لهم عذابًا يكون عذاب النار لأهلها رحمة وتخفيفًا بالإضافة إلى ذلك العذاب، وقد جاء فى حديث أبى سعيد الخدرى أن الكافر إذا أسلم يكتب له ثواب أعمال أهل الطاعة، وقد قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏إذا أسلم الكافر فحسن إسلامه كتب له كل حسنة عملها، ومحى عنه كل سيئة عملها‏)‏، وقال عليه السلام لحكيم بن حزام‏:‏ ‏(‏اسلمت على ما سلف من خير‏)‏، وقد تقدم حديث حكيم بن حزام فى كتاب الزكاة، فى باب من تصدق فى الشرك ثم أسلم، وفى كتاب العتق فى باب من أعتق المشرك، وقد تقدم حديث أبى سعيد الخدرى فى كتاب الإيمان فى باب حسن إسلام المرء، ومر هناك من الكلام ما فيه كفاية‏.‏

باب مَنْ قَالَ‏:‏ لا رَضَاعَ بَعْدَ حَوْلَيْنِ

لِقَوْلِ اللَّه تعالى‏:‏ ‏{‏حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏ وَمَا يُحَرِّمُ مِنْ قَلِيلِ الرَّضَاعِ وَكَثِيرِهِ - فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام دَخَلَ عَلَيْهَا، وَعِنْدَهَا رَجُلٌ، فَكَأَنَّهُ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ، كَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ، فَقَالَتْ‏:‏ إِنَّهُ أَخِى، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ‏)‏‏.‏

اتفق أئمة الأمصار على أن رضاع الكبير لا يحرم، وشذ الليث وأهل الظاهر عن الجماعة، وقالوا‏:‏ إنه يحرم، وذهبوا إلى قول عائشة فى رضاعة سالم مولى أبى حذيفة، وحجة الجماعة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏، فأخبر تعالى أن تمام الرضاعة حولان، فعلم أن ما بعد الحولين ليس برضاع، إذ لو كان ما بعده رضاعًا لم يكن كمال الرضاعة حولين، ويشهد لهذا قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إنما الرضاعة من المجاعة‏)‏، وهذا المعنى لا يقع برضاع الكبير، وقد روى هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أم سلمة، عن النبى، عليه السلام، أنه قال‏:‏ ‏(‏لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء، وكان قبل الفطام‏)‏‏.‏

وأما خبر عائشة فى رضاعة سالم، فلا يخلو أن يكون منسوخًا أو خاصًا لسالم وحده، وقد قالت أم سلمة وسائر أزواج النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ كان رضاع سالم خاصًا له؛ وذلك من أجل التبنى الذى انضاف إليه، ولا يوجد هذا فى غيره، وقد نسخ الله التبنى، فلا ينبغى أن يتعلق به حكم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏، وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏الرضاعة من المجاعة‏)‏، قاطع للخلاف فى هذه المسألة، وما جعله الله حدًا لتمام فلا مزيد لأحد عليه‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏انظرن ما إخوانكن‏)‏، أى ما سبب أخوته، فإن حرمة الرضاع إنما هى فى الصغير حين تسد الرضاعة المجاعة، لا حين يكون الغذاء يغير الرضاع فى حال الكبر‏.‏

واختلفوا فى مقدار مدة الرضاع، فقال جمهور العلماء‏:‏ ما كان فى الحولين فهو يحرم، وما كان بعد الحولين فلا يحرم، روى هذا عن ابن مسعود، وابن عباس، وعن الشعبى، وابن شبرمة، وهو قول الثورى، والأوزاعى، وأبى يوسف، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وهو قول مالك فى الموطأ، وفيها قول ثان‏:‏ روى الوليد ابن مسلم، عن مالك، أن ما كان بعد الحولين بشهر أو شهرين أو ثلاثة يحرم‏.‏

وفيها قول ثالث حكى عن أبى حنيفة أن ما كان بعد الحولين بستة أشهر فإنه يحرم‏.‏

وفيها قول رابع‏:‏ قال زفر‏:‏ مادام يجتزئ باللبن ولم يطعم، وإن أتى عليه ثلاث سنين فهو رضاع‏.‏

والقول قول من قال بالحولين لشهادة كتاب الله وسنة رسوله‏.‏

روى ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، أن النبى، عليه السلام، قال‏:‏ ‏(‏لا رضاع إلا ما كان فى الحولين‏)‏، ودليل آخر وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفصاله فى عامين‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 14‏]‏، فعلم أن ما بعد الحولين بخلافهما‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ والذى يعتمد عليه فى ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏، وليس لما بعد التمام حكم‏.‏

واختلفوا فى مقدار الرضاع الذى تثبت به الحرمة، ولا تجوز الزيادة فيه‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ قالت طائفة‏:‏ يحرم قليل ذلك وكثيره، وهو قول على، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وروى عن سعيد بن المسيب، والحسن، وعطاء، ومكحول، وطاوس، والحكم، وهو قول مالك، والليث، والأوزاعى، والثورى، والكوفيين‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا تحرم الرضعة والرضعتان، وإنما تحرم ثلاث، روى ذلك عن عائشة، وابن الزبير، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد، واحتجوا بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا تحرم الإملاجة والإملاجتان‏)‏‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا يقع التحريم إلا بخمس رضعات مفترقات، روى ذلك عن عائشة، وهو قول الشافعى، وحكى عن إسحاق، واحتجوا بقول عائشة‏:‏ كان فيما نزل فى القرآن عشر رضعات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهى فيما يقرأ من القرآن‏.‏

وروى عن عائشة أيضًا أنه لا يحرم إلا سبع رضعات، وروى عنها أنها أمرت أختها أم كلثوم أن ترضع سالم بن عبد الله عشر رضعات ليدخل عليها، وروى مثله عن حفصة أم المؤمنين‏.‏

وحجة القول الأول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏، ولم يخص قليل الرضاع من كثيره، وقد قال العلماء‏:‏ إن أحاديث عائشة فى الرضاع اضطربت، فوجب تركها والرجوع إلى كتاب الله‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وكيف يجوز أن تأمر عائشة بعشر رضعات وهى منسوخة، وتركنا ونأخذ بالخمس الناسخة لها، وحديث الإملاجة والإملاجتين لا يثبت؛ لأنه مرة يرويه ابن الزبير عن النبى، عليه السلام، ومرة عن عائشة، ومرة عن أبيه، ومثل هذا الاضطراب يسقطه‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ والنظر فى ذلك أنا رأينا الذى يحرم لا عدد فيه، ويحرم قليله وكثيره، ألا ترى لو أن رجلاً جامع امرأة بنكاح أو ملك مرة واحدة أن ذلك يوجب حرمتها على أبيه وعلى ابنه، ويوجب حرمة أمها وابنتها عليه، فكذلك الرضاع لما كان كثيره يحرم كان قليله فى القياس أيضًا كذلك‏.‏

باب لَبَنِ الْفَحْلِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِى الْقُعَيْسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا- وَهُوَ عَمُّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ- بَعْدَ أَنْ نَزَلَ الْحِجَابُ، فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِى صَنَعْتُ، فَأَمَرَنِى أَنْ آذَنَ لَهُ‏.‏

اختلف العلماء فى التحريم بلبن الفحل، فذهبت طائفة إلى أنه يحرم، روى ذلك عن على، وابن عباس، وهو قول عطاء، وطاوس، وإليه ذهب مالك، والأوزاعى، والثورى، والكوفيون، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وذهبت طائفة إلى أن لبن الفحل لا يحرم، قالوا‏:‏ وإنما يقع التحريم من ناحية المرأة لا من ناحية الرجل، روى هذا عن عائشة، وابن عمر، وابن الزبير، والنخعى، وابن المسيب، والقاسم، وأبى سلمة، وهو مذهب أهل الظاهر، واحتجوا بأن عائشة كان يدخل عليها من أرضعته أخواتها وبنات أخيها، ولا يدخل عليها من أرضعته نساء إخوتها، وحجة الذين رأوا به التحريم حديث أفلح أخى أبى القعيس؛ لأن عائشة كانت رضعت من امرأة أبى القعيس بلبنه، فصار أبو القعيس أبًا لعائشة، وصار أخوه عمًا لعائشة، فأشكل هذا على عائشة إذ لا رضاعة حقيقة إلا من امرأة؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏، فلم تر للرجل حكمًا للرضاع، فقالت‏:‏ يا رسول الله، إنما أرضعتنى المرأة ولم يرضعنى الرجل، فأخبرها النبى صلى الله عليه وسلم أن لبن الفحل يحرم بقوله‏:‏ ‏(‏إنه عمك فأذنى له‏)‏‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ والسنة مستغنى بها عما سواها، ومن جهة النظر أن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة جميعًا، فوجب أن يكون الرضاع منهما كما كان الولد لهما وإن اختلف سببهما، كما أن الجد لما كان سببًا فى الولد تعلق تحريم ولد الولد به كتعلقه بولده، كذلك حكم الرجل والمرأة، وقد سُئل ابن عباس عن رجل له امرأتان، فأرضعت إحداهما غلامًا والأخرى جارية، فقال‏:‏ لا يجوز للغلام أن يتزوج الجارية؛ لأن اللقاح واحد، أى الأمهات وإن افترقن فإن الأب واحد الذى هو سبب اللبن للمرأتين، فالغلام والجارية أخوان لأب من الرضاع‏.‏

باب شَهَادَةِ الْمُرْضِعَةِ

- فيه‏:‏ عُقْبَةَ، قَالَ‏:‏ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ‏:‏ أَرْضَعْتُكُمَا، فَأَتَيْتُ النَّبِىَّ عليه السَّلام فَقُلْتُ‏:‏ تَزَوَّجْتُ فُلانَةَ، فَجَاءَتْنَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ‏:‏ لِى إِنِّى قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، وَهِىَ كَاذِبَةٌ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَأَتَيْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، فقُلْتُ‏:‏ إِنَّهَا كَاذِبَةٌ، قَالَ‏:‏ ‏(‏كَيْفَ بِهَا وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا‏؟‏ دَعْهَا عَنْكَ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى هذا الباب، فقالت طائفة‏:‏ يجوز شهادة امرأة واحدة فى الرضاع إذا كانت مرضية، وتستحلف مع شهادتها، روى ذلك عن ابن عباس، وطاوس، وهو قول الزهرى، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏كيف وقد قيل‏)‏، ونهيه عنها، وذكر عن الأوزاعى أنه إنما أجاز شهادة امرأة واحدة فى ذلك إذا شهدت قبل أن يتزوجها، وأما بعد أن يتزوجها فلا يجيز شهادتها‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا يقبل فى ذلك إلا رجلان أو رجل وامرأتان، روى ذلك عن عمر ابن الخطاب، وهو قول الكوفيين‏.‏

وقال مالك‏:‏ تقبل فى ذلك شهادة امرأتين دون رجل، وبه قال الحكم، قال مالك‏:‏ إذا كان ذلك قد فشا وعرف من قولهما، هذه رواية ابن القاسم، وروى عنه ابن وهب أنه تقبل شهادة امرأتين، وإن لم يفش ذلك من قولهما‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا يقبل فى ذلك أقل من أربع نسوة، روى ذلك عن عطاء، والشعبى، وهو قول الشافعى، قال‏:‏ ولو شهد فى ذلك رجلان أو رجل وامرأتان لجاز، وتأول أهل هذه المقالات غير أهل المقالة الأولى أن قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏كيف وقد قيل‏)‏، إنما هو على وجه التنزه والتورع، لا على الإيجاب، وروى ابن مهدى، وحفص بن غياث، عن حذلم العبسى، عن رجل من بنى عبس، قال‏:‏ سألت عليًّا وابن عباس عن رجل تزوج امرأة، فجاءت امرأة فزعمت أنها أرضعتهما، فقالا‏:‏ إن يتنزه عنها فهو خير، وأما أن يحرمها عليه أحد فلا‏.‏

وقال زيد بن أسلم‏:‏ إن عمر بن الخطاب لم يجز شهادة امرأة واحدة فى الرضاع، وأن النبى صلى الله عليه وسلم أخبر عن رضاع امرأة فتبسم، وقال‏:‏ ‏(‏كيف وقد قيل‏)‏‏.‏

باب مَا يَحِلُّ مِنَ النِّسَاءِ وَمَا يَحْرُمُ

وَقَوْلِ اللَّه تعالى‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏ الآية، وقَوْله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏ الآية‏.‏

وقال أَنَسٌ‏:‏ ‏(‏وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ ‏(‏‏:‏ ذَوَاتُ الأزْوَاجِ الْحَرَائِرُ حَرَامٌ‏)‏ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ‏(‏‏:‏ لا نَرَى بَأْسًا أَنْ يَنْزِعَ الرَّجُلُ أمته مِنْ عَبْدِهِ‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 221‏]‏، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعٍ، فَهُوَ حَرَامٌ، كَأُمِّهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ‏:‏ حَرُمَ مِنَ النَّسَبِ سَبْعٌ، وَمِنَ الصِّهْرِ سَبْعٌ، ثُمَّ قَرَأَ‏:‏ ‏(‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ‏}‏ الآية‏.‏

وَجَمَعَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِىٍّ بَيْنَ ابْنَتَىْ عَمٍّ فِى لَيْلَةٍ‏.‏

وَجَمَعَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ بَيْنَ ابْنَةِ عَلِىٍّ وَامْرَأَةِ عَلِىٍّ‏.‏

وقال ابْنُ سِيرِينَ‏:‏ لا بَأْسَ بِهِ‏.‏

وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ مَرَّةً، ثُمَّ قَالَ‏:‏ لا بَأْسَ بِهِ‏.‏

وَكَرِهَهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ لِلْقَطِيعَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ تَحْرِيمٌ، لِقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏‏.‏

وقال ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ إِذَا زَنَى بِأُخْتِ امْرَأَتِهِ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ إِذَا زَنَى بِهَا لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ، وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِى نَصْرٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَرَّمَهُ، وَأَبُو نَصْرٍ هَذَا لَمْ يُعْرَفْ سَمَاعِهِ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏.‏

وَيُرْوَى عَنْ يَحْيَى الْكِنْدِىِّ، عَنِ الشَّعْبِىِّ وأَبِى جَعْفَرٍ فِيمَنْ يَلْعَبُ بِالصَّبِىِّ‏:‏ إِنْ أَدْخَلَهُ فِيهِ فَلا يَتَزَوَّجَنَّ أُمَّهُ، وَيَحْيَى هَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ‏.‏

وَيُرْوَى عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَجَابِرِ ابْنِ زَيْدٍ، وَالْحَسَنِ، وَبَعْضِ أَهْلِ الْعِرَاقِ تَحْرُمُ عَلَيْهِ‏.‏

وقال أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ لا تَحْرُمُ حَتَّى يُلْزِقَ بِالأرْضِ، يَعْنِى تُجَامِعَ، وَجَوَّزَهُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ وَالزُّهْرِىُّ، وَقَالَ الزُّهْرِىُّ‏:‏ قَالَ عَلِىٌّ‏:‏ لا تَحْرُمُ، وَهَذَا مُرْسَلٌ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ الرواية ثابتة عن ابن عباس أن السبع المحرمات بالنسب الأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الأخت، والسبع المحرمات بالصهر والرضاع الأمهات من الرضاعة، والأخوات من الرضاعة، وأمهات النساء، والربائب، وحلائل الأبناء، والجمع بين الأختين، والسابعة‏:‏ ‏(‏ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 22‏]‏‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏حرمت عليكم أمهاتكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏، المراد به الوالدات ومن فوقهن من الجدات من قبل الأمهات ومن قبل الآباء، وقوله‏:‏ ‏(‏وبناتكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏ المراد البنات للأصلاب ومن أسفل منهن من بنات الأبناء، ومن بنات البنات وإن سفلن، وقوله‏:‏ ‏(‏وأخواتكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏، المراد بذلك الأخوات من الآباء والأمهات، ومن الآباء ومن الأمهات، وقوله‏:‏ ‏(‏وعماتكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏، المراد به العمات أخوات الآباء من الآباء والأمهات ومن الآباء ومن الأمهات، وكذلك أخوات الأجداد من كل واحدة من الجهات الثلاث وإن علون،‏)‏ وخالاتكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏، المراد بذلك أخوات الأمهات الوالدات لآبائهن وأمهاتهن، ولآبائهن ولأمهاتهن أخوات الجدات كأخوات الأمهات فى الحرمات؛ لأنه إذا كان لهن حكم الأمهات كان أيضًا لأخواتهن حكم أخوات الأمهات‏.‏‏)‏ وبنات الأخ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏، المراد بذلك بنات الأخ من الأب والأم ومن الأب ومن الأم، ومن الأم وبنات بنيهم، وبنات بناتهن وإن سفلن،‏)‏ وبنات الأخت‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏، كذلك أيضًا من أى جهة كن وأولادهن وأولاد أولادهن وإن سفلن‏.‏

وقوله يعنى‏:‏ ‏(‏وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏، فكان هذا على الأم المرضعة وعلى من فوقها من أمهاتها وإن بعدن، وقام ذلك مقام الأم الوالدة ومقام أمهاتها، وكذلك حكم الأخوات من الرضاعة حكم اللواتى من النسب، وتحرم زوجة الرجل على أبيه وعلى ابنه دخل بها أو لم يدخل، وعلى أجداده وعلى ولد ولده الذكور والإناث، ولا تحل لبنى بنيه ولا لبنى بناته ما تناسلوا؛ لقوله‏:‏ ‏(‏وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏، ولقوله‏:‏ ‏(‏ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 22‏]‏، ولم يذكر تعالى دخولاً، فصارتا محرمتين بالعقد، والملك والرضاع فى ذلك بمنزلة النسب، والمراد بقوله‏:‏ ‏(‏ما نكح آباؤكم ‏(‏، آباء الآباء، وآباء الأمهات ومن فوقهم من الأجداد، وكل هذا من المحكم المتفق على تأويله، وغير جائز نكاح واحدة منهن بإجماع إلا أمهات النساء اللواتى لم يدخل بهن أزواجهن، فإن بعض السلف اختلفوا إذا بانت الابنة قبل الدخول بها هل تحرم أمها أم لا، فذهب جمهور السلف إلى أن الأم تحرم بالعقد على الابنة ولا تحرم الابنة إلا بالدخول بالأم، وبهذا قال جميع أئمة الفتوى بالأمصار‏.‏

وقالت طائفة من السلف‏:‏ الأم والربيبة سواء لا تحرم منهما واحدة إلا بالدخول بالأخرى، وتأولوا القرآن على غير تأويله، فقالوا‏:‏ المعنى وأمهات نسائكم اللاتى دخلتم بهن وربائبكم اللاتى فى حجوركم من نسائكم اللاتى دخلتم بهن، وزعموا أن شرط الدخول راجع إلى الأمهات والربائب جميعًا، روى هذا القول خلاس، عن على بن أبى طالب، ورواية عن ابن عباس، وزيد بن ثابت، وهو قول ابن الزبير، ومجاهد لم يختلف عنهما‏.‏

وهذا قول لم يقل به أحد من أئمة الفتوى، وحديث خلاس عن على لا تقوم به حجة؛ لأنه لا يصحح روايته أهل العلم بالحديث، والصحيح عن ابن عباس مثل قول الجماعة، روى سعيد، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس فى قوله‏:‏ ‏(‏وأمهات نسائكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏، قال‏:‏ هى مبهمة لا تحل بالعقد على الابنة، وكذلك روى مالك، عن يحيى بن سعيد، أنه قال‏:‏ سُئل زيد بن ثابت عن رجل تزوج امرأة ثم فارقها قبل أن يصيبها، هل تحل له أمها‏؟‏ فقال زيد بن ثابت‏:‏ لا، الأم مبهمة وإنما الشرط فى الربائب، وهذا الصحيح عن زيد ابن ثابت‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وهذا هو الصحيح، لدخول جميع أمهات النساء فى قوله‏:‏ ‏(‏وأمهات نسائكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏، وحجة أهل هذه المقالة أن الاستثناء راجع إلى الربائب؛ لأنهن أقرب مذكور، ولا يرجع إلى أمهات النساء، والدليل على ذلك من طريق العربية من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن العرب تحمل الوصف على أقرب الموصوفين دون أن تحمله على أبعدهما أو أن تشرك بينهما فيه، فتقول‏:‏ هذا جحر ضب خرب وهو لحن؛ لأن الضب ليس بالخرب، وإنما هو الجحر قصد إلى جرى الكلام على طريقة واحدة‏.‏

والثانى‏:‏ أن الخبرين إذا اختلفا لم يكن نعتهما واحدًا، لا يجيز النحويون‏:‏ مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات على أن تكون الظريفات نعتًا لنسائك ونساء زيد‏.‏

واختلف أهل التأويل فى قوله‏:‏ ‏(‏والمحصنات من النساء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏، فقالت طائفة‏:‏ المحصنات فى هذه الآية كل أمة ذات زوج من المسلمين والمشركين حرام على غير أزواجهن، إلا أن تكون مملوكة اشتراها مشتر من مولاها فتحل له ويبطل بيع سيدها إياها النكاح بينها وبين زوجها، روى هذا القول عن ابن مسعود، وأبى بن كعب، وجابر، وأنس، وقالوا‏:‏ بيع الأمة طلاق لها، وهو قول النخعى، وابن المسيب، والحسن‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ المحصنات فى هذه الآية ذوات الأزواج المستثنيات منهن بملك اليمين هن السبايا اللواتى فرق بينهن وبين أزواجهن السبى، فحللن لمن صرن له بملك اليمين من غير طلاق كان من زوجها لها، روى هذا عن ابن عباس، قال‏:‏ كل ذات زوج إتيانها زنا إلا ما سبيت، وهو قول زيد بن أسلم ومكحول‏.‏

وقالوا‏:‏ إن هذه الآية نزلت فى سبى أوطاس، وقالوا‏:‏ ليس بيع الأمة طلاقها، وإن الآية نزلت فى السبايا خاصة، وبهذا قال مالك، والكوفيون، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، واحتجوا بحديث بريرة، قالوا‏:‏ ولو كان بيع الأمة طلاقها ما خيرت‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ والقياس يوجب فساد قول من جعل بيع الأمة طلاقها؛ لأنه لا فعل للزوج فى ذلك ولا سبب له، والطلاق لا يقع إلا من الأزواج‏.‏

وقال آخرون‏:‏ بل المحصنات فى الآية وإن كن ذوات الأزواج، فإنه تدخل فى ذلك محصنة عفيفة ذات زوج وغير ذات زوج، مسلمة أو كتابية فى أن الله حرم الزنا بهن وأباحهن بالنكاح أو الملك، روى هذا عن على، وابن عباس، ومجاهد، وهو معنى قول ابن المسيب، ويرجع ذلك إلى أن الله حرم الزنا، ومعنى الآية عندهم‏)‏ إلا ما ملكت أيمانكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏، يعنى تملكون عصمتهن بالنكاح، وتملكون الرقبة بالشراء‏.‏

وأما قوله‏:‏ وجمع عبد الله بن جعفر بين بنت على وامرأة على، فإنما فعل ذلك؛ لأن الابنة كانت من غير تلك المرأة، وهذا جائز عند مالك، والثورى، وأبى حنيفة، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور؛ لأنه إنما حرم على الرجل أن يتزوج المرأة وابنتها، وليس بحرام عليه أن يتزوج المرأة وربيبتها، لا فى كتاب الله ولا فى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هما داخلتان فى جملة قوله‏:‏ ‏(‏وأحل لكم ما وراء ذلكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏، وفى قوله‏:‏ ‏(‏فانكحوا ما طاب لكم من النساء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وقال ابن أبى ليلى‏:‏ لا يجوز هذا النكاح، وكرهه الحسن وعكرمة‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وقد ثبت رجوع الحسن عنه، وحجة الذين كرهوه ولم يجيزوه ما أصله العلماء فى معنى الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها‏.‏

قال الشعبى‏:‏ انظر فكل امرأتين لو كانت إحداهما رجلاً لم يجز له نكاح الأخرى، فلا يجوز الجمع بينهما، قيل له‏:‏ عمن‏؟‏ قال‏:‏ عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال الثورى‏:‏ تفسير هذا أن يكون من النسب وليس بين امرأة الرجل وابنته من غيرها نسب يجمعهما، فلذلك يجوز الجمع بينهما، وعلى هذا التفسير جماعة الفقهاء، وكذلك أجاز أكثر العلماء أن تنكح المرأة وتنكح ابنة ابنتها من غيره، وكره ذلك طاوس ومجاهد‏.‏

وأما الجمع بين ابنتى العم، فكرهه مالك، وليس بحرام عنده، وهو قول عطاء، وجابر ابن زيد، قالا‏:‏ إنما كره ذلك للقطيعة وفساد ما بينهما، ورخص فيه أكثر العلماء‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ولا أعلم أحدًا أبطل هذا النكاح وهما داخلتان فى جملة ما أبيح بالنكاح غير خارجتين منه بكتاب ولا سنة ولا إجماع، وكذلك معنى الجمع بين ابنتى عم وعمة، أو بين ابنتى خال وخالة‏.‏

وقول ابن عباس‏:‏ إذا زنى بأخت امرأته لم تحرم عليه امرأته، فهو قول أكثر العلماء، وإنما حرم الله الجمع بين الأختين بالنكاح خاصة لا بالزنا، ألا ترى أنه يجوز نكاح واحدة بعد أخرى من الأختين ولا يجوز ذلك فى المرأة وابنتها‏.‏

واختلفوا إذا زنى بالأم، هل تحرم عليه الابنة أو إذا زنى بالابنة هل تحرم عليه الأم‏؟‏ فقال الكوفيون، والثورى، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق‏:‏ إذا زنى بامرأة حرمت عليه أمها وابنتها، وهذه رواية ابن القاسم عن مالك فى المدونة، وقالوا‏:‏ الحرام يحرم الحلال‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا يحرم الحرام الحلال، روى ذلك عن ابن عباس، وسعيد بن المسيب، وعروة، وربيعة، والليث، وهو قول مالك فى الموطأ، وبه قال الشافعى، وأبو ثور، وحجة هذا القول أنه لما ارتفع الصداق فى الزنا ووجوب العدة والميراث ولحوق الولد ووجوب الحد ارتفع أن يحكم له بحكم النكاح الجائز، ورخص أكثر العلماء فى تزويج المرأة التى زنى بها، وشبه ابن عباس ذلك برجل يسرق ثمر النخلة فيأكلها ثم يشتريها، وكره ذلك ابن مسعود، وعائشة، والبراء، وقالوا‏:‏ لا يزالان زانيين ما اجتمعا‏.‏

وأما تحريم النكاح باللواط، فإن أصحاب مالك، وأبى حنيفة، والشافعى، وغيرهم لا يحرمون النكاح باللواط، وقال الثورى‏:‏ إذا لعب بالصبى حرمت عليه أمه، وهو قول أحمد بن حنبل، قال‏:‏ إذا تلوط بابن امرأته، أو أبيها، أو أخيها، حرمت عليه امرأته‏.‏

وقال الأوزاعى‏:‏ إذا لاط غلام بغلام وولد للمفجور به بنت لم يجز للفاجر أن يتزوجها؛ لأنها بنت من قد دخل هو به، وهو قول أحمد بن حنبل‏.‏

باب قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِى فِى حُجُورِكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ الدُّخُولُ وَالْمَسِيسُ وَاللِّمَاسُ هُوَ الْجِمَاعُ‏.‏

وَمَنْ قَالَ‏:‏ بَنَاتُ وَلَدِهَا مِنْ بَنَاتِهِ فِى التَّحْرِيمِ، لِقَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم لأمِّ حَبِيبَةَ‏:‏ لا تَعْرِضْنَ عَلَىَّ بَنَاتِكُنَّ وَلا أَخَوَاتِكُنَّ، وَكَذَلِكَ حَلائِلُ وَلَدِ الأبْنَاءِ هُنَّ حَلائِلُ الأبْنَاءِ، وَهَلْ تُسَمَّى الرَّبِيبَةَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِى حَجْرِهِ، وَدَفَعَ النَّبِىُّ عليه السَّلام رَبِيبَةً لَهُ إِلَى مَنْ يَكْفُلُهَا، وَسَمَّى النَّبِىُّ عليه السَّلام ابْنَ ابْنَتِهِ ابْنًا‏.‏

- فيه‏:‏ أُمِّ حَبِيبَةَ، قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ لَكَ فِى بِنْتِ أَبِى سُفْيَانَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏فَأَفْعَلُ مَاذَا‏)‏‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ تَنْكِحُ، قَالَ‏:‏ ‏(‏أَتُحِبِّينَ‏)‏‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَرِكَنِى فِى خَيْرٍ أُخْتِى، قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّهَا لا تَحِلُّ لِى‏)‏، قُلْتُ‏:‏ بَلَغَنِى أَنَّكَ تَخْطُبُ، قَالَ‏:‏ ‏(‏ابْنَةَ أُمِّ سَلَمَةَ‏)‏‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ ‏(‏لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِى فى حَجْرِى مَا حَلَّتْ لِى، أَرْضَعَتْنِى وَأَبَاهَا ثُوَيْبَةُ، فَلا تَعْرِضْنَ عَلَىَّ بَنَاتِكُنَّ وَلا أَخَوَاتِكُنَّ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى معنى الدخول بالأمهات الذى يقع به تحريم نكاح الربائب، فروى عن ابن عباس أنه قال‏:‏ الدخول الجماع، وهو قول طاوس، ولم يقل بهذا أحد من الفقهاء، واتفق الفقهاء أنه إذا لمسها بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها، ثم اختلفوا فى النظر، فقال مالك‏:‏ إذا نظر إلى شعرها أو صدرها أو شىء من محاسنها بلذة، حرمت عليه أمها وابنتها‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ إذا نظر إلى فرجها بشهوة كان بمنزلة اللمس بشهوة‏.‏

وقال ابن أبى ليلى‏:‏ لا تحرم بالنظر حتى يلمس، وهو قول الشافعى، وقد روى التحريم بالنظر عن مسروق، والتحريم باللمس عن النخعى، والقاسم، ومجاهد، وأجمع الفقهاء على أن الربيبة تحرم على زوج أمها إذا دخل بالأم، وإن لم تكن الربيبة فى حجره‏.‏

وشذ أهل الظاهر عن جماعة الفقهاء، وقالوا‏:‏ لا تحرم عليه الربيبة إلا أن تكون فى حجره، واحتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وربائبكم اللاتى فى حجوركم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏ الآية، قالوا‏:‏ تحريم الربيبة بشرطين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن تكون فى حجره، والآخر‏:‏ أن تكون أمها قد دخل بها، فإذا عدم أحد الشرطين، لم يوجد التحريم، قالوا‏:‏ لأن الزوج إنما جعل محرمًا لها من أجل ما يلحق من المشقة فى استتارها عنه، وهذا المعنى لا يوجد إلا إذا كانت فى حجره‏.‏

واحتجوا بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لو لم تكن ربيبتى فى حجرى‏)‏، فشرط الحجر، ورووا عن على بن أبى طالب إجازة ذلك‏.‏

وقال ابن المنذر والطحاوى‏:‏ فأما الحديث عن على، فلا يثبت؛ لأن راويه إبراهيم، عن عبيد، عن مالك بن أوس، عن على، وإبراهيم هذا لا يعرف‏.‏

وأكثر أهل العلم قد تلقوه بالدفع والخلاف، واحتجوا فى دفعه بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏فلا تعرضن على بناتكن ولا أخواتكن‏)‏، فدل ذلك على انتفائه‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ ويدفعه قوله‏:‏ ‏(‏لا تعرضن على بناتكن‏)‏ فعمهن، ولم يقل‏:‏ اللاتى فى حجرى، ولكنه سوى بينهن فى التحريم‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإضافته عليه السلام إياهن إلى الحجور، إنما هو على الأغلب مما تكون عليه الربائب لا أنهن لا يحرمن إذا لم يكن كذلك، وقوله تعالى لنبيه‏:‏ ‏(‏يا أيها النبى إنا أحللنا لك أزواجك اللاتى آتيت أجورهن‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 50‏]‏، وإنما أحلهن له بعقد نكاحهن عليه لا بإتيانه إياهن أجورهن؛ لأنه معقول فيهن أنه لو طلقهن بعد عقدة نكاحهن ولم يؤتهن أجورهن أن الطلاق واقع عليهن، كما قال‏:‏ ‏(‏لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 236‏]‏، فأثبت الله نكاحهن، وإن كن لم يؤتهن أجورهن، فعلمنا بذلك أن أزواج النبى صلى الله عليه وسلم إنما حللن له بعقد النكاح وإتيان الأجور وعقلنا بذلك أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللاتى آتيت أجورهن‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 50‏]‏، إنما هو على وصف الأغلب مما تكون عليه الزوجات‏.‏

وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وربائبكم اللاتى فى حجوركم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏، إنما هو على التحريم بالسبب الذى كن به ربائب، ووصفهن بالإضافة إلى الحجور؛ لأنه الأغلب مما تكون عليه الربائب مع أزواج أمهاتهن‏.‏

قال‏:‏ والقياس يوجب هذا؛ لأنه لا يكون التحريم بشيئين إلا ولكل واحد منهما إذا انفرد حكم، فلذلك جعلنا التحريم فى الربائب بالسبب الذى صرن به ربائب لا بما سواه‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وحجة الجماعة أنه لا تأثير للحجر فى التحريم ولا فى الإباحة، بدليل أن الأخت والعمة والخالة لما حرمن عليه لم يفترق الحكم بين أن يكونوا فى حجره أم لا، ولو كان الحجر شرطًا فى التحريم لوجب إذا ارتفع أن يرتفع التحريم، فلما رأينا التحريم قائمًا، وقد زال الحجر بموت أمها أو طلاقها، علمنا أن لا اعتبار بالحجر، ألا ترى أن بنت أم سلمة لم تكن فى حجره، عليه السلام، ولا ربيت فيه قبل نكاحه بأم سلمة‏.‏

ويشهد لهذا أنه لو وطئ الأم بملك اليمين لحرمت عليه البنت، سواء كانت فى حجره أم لا، وكل امرأة حرمت عليك فابنتها حرام عليك إلا أربعًا بنت العمة، وبنت الخالة، وبنت حليلة الابن، وبنت حليلة الأب‏.‏

باب ‏{‏وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏

- فيه‏:‏ أُمَّ حَبِيبَةَ، قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْكِحْ أُخْتِى بِنْتَ أَبِى سُفْيَانَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏وَتُحِبِّينَ‏)‏‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِى فِى خَيْرٍ أُخْتِى، قَالَ عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏إِنَّ ذَلِكِ لا يَحِلُّ لِى، فَلا تَعْرِضْنَ عَلَىَّ بَنَاتِكُنَّ وَلا أَخَوَاتِكُنَّ‏)‏‏.‏

وأجمع العلماء على أنه لا يجوز جمع نكاح الأختين فى عقد واحد؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن تجمعوا بين الأختين‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏، وأن ذلك جمع بينهما، وأن ذلك حرام متفق على مراد الله تعالى فى الآية، ولقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا تعرضن على أخواتكن‏)‏، فإنه لا يجوز الجمع بين الأختين، واختلفوا فى الأختين بملك اليمين، فذهب كافة العلماء إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما بالملك فى الوطء، وإن كان يجوز الجمع بينهما، فإن الوطء فى الإماء نظير عقد النكاح فى الحرائر، وشذ أهل الظاهر، فقالوا‏:‏ يجوز الجمع بينهما فى الوطء كما يجوز الجمع بينهما فى الملك، وقالوا‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن تجمعوا بين الأختين‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏ عائد إلى المنكوحات؛ لأنه قدم ذكر المحرمات بالنكاح، ثم عطف عليهن بذكر الأختين، واحتجوا بما روى عن عثمان بن عفان أنه قال فى الأختين من ملك اليمين‏:‏ حرمتهما آية، وأحلتهما آية‏.‏

وذكر الطحاوى، عن على، رضى الله عنه، وابن عباس مثل قول عثمان، والآية التى أحلتهما قوله‏:‏ ‏(‏وأحل لكم ما وراء ذلكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏، ولم يلتفت أحد من أئمة الفتوى إلى هذا القول؛ لأنهم فهموا من تأويل كتاب الله خلافه، ولا يجوز عليهم تحريف التأويل، وممن قال ذلك من الصحابة عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وعمار بن ياسر، وابن عمر، وعائشة، وابن الزبير، وقال على‏:‏ لو كان الأمر إلىّ ورأيت أحدًا يفعله جعلته نكالاً، وهؤلاء أهل العلم بكتاب الله والمعرفة بكلام العرب، فمن خالفهم متعسف فى التأويل متبع غير سبيل المؤمنين‏.‏

وأما قولهم‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن تجمعوا بين الأختين‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏ عائد إلى المنكوحات، فإنه لا يمتنع أن يكون أول الآية خاصًا وآخرها عامًا، ألا ترى أن فى أول الآيات تحريم الأمهات والبنات اللواتى لا يستقر الملك عليهن بالشراء، وبعد ذلك فيهما ذكر العمات والخلات اللواتى يستقر الملك عليهن، فكذلك الجمع بين الأختين فى النكاح والوطء بالملك‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ لما اختلفوا فى ذلك نظرنا كيف هو، فرأينا الله قد حرم فى هذه الآية الأمهات والبنات إلى قوله‏:‏ ‏(‏وحلائل أبنائكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏، فكأن هؤلاء جميعًا محرمات فى ملك اليمين كما هن محرمات فى النكاح، واختلفوا فى الأختين بملك اليمين، فالقياس على ذلك أن تكونا محرمتين فى ملك اليمين، وأن يكون حكمهما كحكمهما فى النكاح، وهذا هو القياس‏.‏

باب لا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا

- فيه‏:‏ جَابِر، نَهَى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، مثله‏.‏

وزاد الزهرى‏:‏ فَنُرَى خَالَةَ أَبِيهَا بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ؛ لأنَّ عُرْوَةَ حَدَّثَنِى عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ حَرِّمُوا مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ‏.‏

أجمع العلماء أنه لا يجوز الجمع بين المرأة وعمتها وإن علت، ولا بين المرأة وخالتها وإن علت‏.‏

وقال عبد الملك بن حبيب‏:‏ ولا يجمع بين المرأة وعمة عمتها وعمة أبيها وخالة أبيها، وكذلك المرأة وخالتها وخالة خالتها وخالة أمها وعمة أمها‏.‏

قال عبد الملك‏:‏ وأما خالة عمتها، فإن ابن الماجشون قال لى‏:‏ إن تكن أم العمة وأم الأب واحدة فهى كالخالة، فإنها خالة أبيها، وإن تكن أمها غير أم الأب، فلا بأس بالجمع بينهما إنما هى امرأة أجنبية، ألا ترى أن أباها ينكحها‏.‏

قال غيره‏:‏ إنما ينكح خالة العمة أخو العمة؛ لأنها أخت خالته لأب، والخئولة إنما تحرم من قبل الأم، فإذا كانت من قبل الأب فلا حرمة لها كرجل له أخ لأب، وله أخت لأم، فيجوز أن يتزوج كل واحد منهما بالآخر؛ لأنهما لا يجتمعان لا إلى الأب ولا إلى الأم‏.‏

قال ابن الماجشون‏:‏ وأما عمة خالتها، فإن تلك خالتها أخت أمها لأبيها، فإن عمة خالتها عمة أمها، فلا يجتمعان، ألا ترى أنه لو كان فى موضعها رجل لم تحل له، وإن كانت خالتها أخت أمها لأمها دون أبيها فلا بأس أن يجمع بينها وبين عمة خالتها لأبيها؛ لأنها منهما أجنبية لو كانت إحداهما رجلاً حلت له الأخرى‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ولست أعلم فى تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها خلافًا إلا فرقة من الخوارج، وإذا ثبت الشىء بالسنة، وأجمع أهل العلم عليه لم يضر خلاف من خالفه‏.‏

وأما قول الزهرى‏:‏ فنرى خالة أبيها بتلك المنزلة؛ لأن عروة حدثنى عن عائشة، قالت‏:‏ حرموا من الرضاع ما يحرم من النسب، فلا حاجة إلى تشبيهها بما حرم بالرضاع، فهو استدلال غير صحيح من الزهرى؛ لأنه استدل على تحريم من حرمت بالنسب بتحريم من حرمت بالرضاع‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ويدخل فى معنى هذا الحديث تحريم نكاح الرجل المرأة على عمتها من الرضاعة وخالتها من الرضاعة؛ لقول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب‏)‏‏.‏

باب الشِّغَارِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، نَهَى النَّبِىّ عليه السَّلام عَنِ الشِّغَارِ‏.‏

وَالشِّغَارُ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الآخَرُ ابْنَتَهُ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ‏.‏

وتفسير الشغار فى اللغة، قال أبو زيد‏:‏ شغر الكلب يشغر شغرًا، رفع رجله، بال أو لم يبل‏.‏

وقال صاحب العين‏:‏ شغر الكلب‏:‏ رفع إحدى رجليه ليبول‏.‏

وقال أبو زيد‏:‏ شغرت بالمرأة شغورًا، رفعت رجلها عند الجماع‏.‏

ومعناه فى الشريعة أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته لا صداق بينهما، وإنما هو البضع بالبضع‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ وكل واحد منهما يشغر إذا نكح، وأصل الشغار للكلب، إذا رفع إحدى رجليه ليبول، فكنى بهذا عن النكاح إذا كان على هذا الوجه وجعل له علمًا‏.‏

واختلف العلماء فيه‏:‏ إذا وقع، فقال مالك والشافعى‏:‏ لا يصح نكاح الشغار دخل بها أو لم يدخل ويفسخ أبدًا، وهو قول أبى عبيد‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ النكاح جائز، ولكل واحدة منهما صداق مثلها، هذا قول عطاء، ومكحول، والزهرى، وإليه ذهب الليث، والثورى، والكوفيون، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وفيها قول ثالث، وهو إن لم يدخل بالمرأتين فسخ النكاح، وإن دخل بهما فلهما مهر مثلهما، وهو قول الأوزاعى‏.‏

وحجة الذين قالوا‏:‏ العقد فى الشغار صحيح والمهر فاسد ويصح بمهر المثل، إجماع العلماء على أن الخمر والخنزير لا يكون منهما مهر لمسلم، وكذلك الغرر والمجهول، وسائر ما نهى عن ملكه أو تملك على غير وجهه وسنته‏.‏

وأجمعوا مع ذلك أن النكاح على المهر الفاسد إذا فات بالدخول، فلا يفسخ بفساد صداقه، ويكون فيه مهر المثل ولو لم يكن نكاحًا منعقدًا حلالاً ما صار نكاحًا بالدخول، والأصل فى ذلك أن التزويج مضمن بنفسه لا بالعوض فيه بدليل تجويز الله تعالى النكاح بغير صداق بقوله‏:‏ ‏(‏لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 236‏]‏، فلما أوقع الطلاق دل على صحة النكاح دون تسمية صداق؛ لأن الطلاق غير واقع إلا على الزوجات، وكونهن زوجات دليل على صحة النكاح بغير تسمية‏.‏

وحجة الذين أبطلوا النكاح ظاهر نهى النبى، عليه السلام، عن نكاح الشغار، والنهى يقتضى تحريم المنهى عنه وفساده‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ودل نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن الشغار على إغفال من زعم أنه يجعل ما أباحه الله فى كتابه من عقد النكاح على غير صداق معلوم قياسًا على ما نهى النبى صلى الله عليه وسلم من الشغار ولا يشبه ما نهى الله عنه بما أباحه وهذه غفلة‏.‏

واختلفوا فى إذا قال‏:‏ أزوجك أختى على أن تزوجنى أختك على أن يسميا لكل واحدة منهما مهرًا، أو يسمياه لإحداهما، فقالت طائفة‏:‏ ليس هذا بالشغار المنهى عنه والنكاح ثابت والمهر فاسد، ولكل واحدة منهما مهمر مثلها ما إن دخل بها أو ماتت أو مات عنها، أو نصفه إن طلقها قبل الدخول بها، هذا قول الشافعى، وابن القاسم، وكرهه مالك، ورآه من باب الشغار، وأجازه الكوفيون، ولها ما يسمى لها‏.‏

وقال أحمد ابن حنبل‏:‏ إذا كان فى الشغار صداق فليس بشغار‏.‏

باب هَلْ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لأحَدٍ‏؟‏

- فيه‏:‏ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ، أَنها كانت مِنَ اللائِى وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِلنَّبِىِّ عليه السَّلام فَقَالَتْ عَائِشَةُ‏:‏ أَمَا تَسْتَحِى الْمَرْأَةُ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لِلرَّجُلِ‏؟‏ فَلَمَّا نَزَلَتْ‏:‏ ‏(‏تُرْجِىُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 51‏]‏ فقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَرَى رَبَّكَ إِلا يُسَارِعُ فِى هَوَاكَ‏.‏

قال ابن القاسم، عن مالك‏:‏ الموهوبة خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل لأحد بعده أن يتزوج بغير صداق؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خالصة لك من دون المؤمنين‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 50‏]‏، ولا خلاف فى هذا بين العلماء‏.‏

واختلفوا فى عقد النكاح، هل يصح بلفظ الهبة مثل أن يقول الرجل‏:‏ قد وهبت لك ابنتى أو وليتى، ويسمى صداقًا أو لم يسم، وهو يريد بذلك النكاح، فقال ابن القاسم‏:‏ هو عندى جائز كالبيع عند مالك؛ لأن من قال‏:‏ أهب لك هذه السلعة على أن تعطينى كذا وكذا، فهو بيع‏.‏

وقال ابن المواز‏:‏ لم يختلف مالك وأصحابه إذا تزوج على الهبة أنه يفسخ قبل البناء، واختلفوا إذا دخل بها، فقال ابن القاسم وعبد الملك‏:‏ لا يفسخ ولها صداق المثل، وبهذا قال أبو حنيفة، والثورى‏.‏

وقال أشهب، وابن عبد الحكم، وابن وهب، وأصبغ‏:‏ أنه يفسخ وإن دخل‏.‏

قال أصبغ‏:‏ لأن فساده فى البضع، وبهذا قال الشافعى، قال‏:‏ لا يصح النكاح بلفظ الهبة ولا ينعقد عنده إلا بأحد لفظين إما‏:‏ قد أنكحتك أو زوجتك، وهو قول المغيرة، وابن دينار، وأبى ثور‏.‏

وحجة من قال‏:‏ لا يصح بلفظ الهبة، أن الله تعالى جعل انعقاد النكاح بلفظ الهبة خاصًا للنبى، عليه السلام، فلو انعقد نكاح به لم يقع الخصوص، ولما أجمعوا أنه لا تنعقد هبة بلفظ نكاح، كذلك لا ينعقد نكاح بلفظ هبة، وأيضًا فإن الهبة لا تتضمن العوض فوجب ألا ينعقد به النكاح كالإحلال والإباحة‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ واحتج أهل المقالة الأولى بأن التى وهبت نفسها للنبى، عليه السلام، إنما قصدت بلفظ الهبة التزويج برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل عليه السلام أن النكاح بهذا اللفظ لا ينعقد، وقولهم‏:‏ إن لفظ الهبة خاص للنبى، عليه السلام، فإننا نقول‏:‏ إن الخصوصية له أنه بلا مهر، وليس ذلك لغيره‏.‏

وقولهم‏:‏ أنه لما لم تنعقد هبة بلفظ نكاح، فكذلك لا ينعقد نكاح بلفظ هبة، فالفرق بينهما أنه إذا قال‏:‏ أنكحتك مملوكتى، فلا يفهم منه أنه وهبها، ولا يقع بذلك تمليك، والهية يقع بها التمليك فافترقا‏.‏

وقولهم‏:‏ إن الهبة لا تتضمن العوض، فإنه يبطل بقوله‏:‏ قد زوجتك على ألا مهر، فالنكاح ينعقد عندهم، ولفظ الهبة إذا قصد بها النكاح يتضمن العوض؛ لقوله‏:‏ ‏(‏خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم فى أزواجهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 50‏]‏، وكذلك الإحلال والإباحة إذا قصد به النكاح صح وضمن العوض عندنا‏.‏

باب نَهْىِ النَّبِىّ عَلَيْهِ السَّلام عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ

- فيه‏:‏ عَلِىّ، قَالَ لابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ إِنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ‏.‏

- قال‏:‏ أَبُو جَمْرَةَ‏:‏ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ فَرَخَّصَ، فَقَالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ‏:‏ إِنَّمَا ذَلِكَ فِى الْحَالِ الشَّدِيدِ، وَفِى النِّسَاءِ قِلَّةٌ- ونَحْوَهُ- فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ نَعَمْ‏.‏

- وفيه‏:‏ جَابِر، وَسَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ، قَالا‏:‏ كُنَّا فِى جَيْشٍ، فَأَتى رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ الله قَدْ أُذِنَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَمْتِعُوا فَاسْتَمْتِعُوا‏)‏‏.‏

وزاد سَلَمَةَ، عَنْ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏أَيُّمَا رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ تَوَافَقَا، فَعِشْرَةُ مَا بَيْنَهُمَا ثَلاثُ لَيَالٍ، فَإِنْ أَحَبَّا أَنْ يَتَزَايَدَا أَوْ يَتَتَارَكَا تَتَارَكَا‏)‏، فَمَا أَدْرِى أَشَىْءٌ، كَانَ لَنَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً‏.‏

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ‏:‏ وَبَيَّنَهُ عَلِىٌّ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ مَنْسُوخٌ‏.‏

وذكر الطحاوى، عن على بن أبى طالب، وابن عمر، أن النهى عن المتعة كان يوم خيبر، ورواه مالك، ومعمر، ويونس، عن ابن شهاب فى هذا الحديث، أن النبى، عليه السلام، نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية‏.‏

وقد رويت آثار أُخر أن نهيه، عليه السلام، عن المتعة كان فى غير يوم خيبر، فروى أبو العميس عن إياس بن سلمة، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن فى المتعة عام أوطاس، ثم نهى عنها، من حديث ابن أبى شيبة‏.‏

وروى عكرمة بن عمار، عن سعيد المقبرى، عن أبى هريرة، أنه حرم المتعة فى غزوة تبوك، ذكره الطحاوى‏.‏

وقال عمرو، عن الحسن‏:‏ ما حلت المتعة قط إلا ثلاثًا فى عمرة القضاء، ما حلت قبلها ولا بعدها‏.‏

وروى حماد بن زيد، عن أيوب، عن الزهرى، عن الربيع بن سبرة، عن أبيه، قال‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المتعة عام الفتح‏.‏

وروى عبد العزيز عن عمر بن عبد العزيز، عن الربيع بن سبرة، عن أبيه، أنه نهى عنها فى حجة الوداع‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ فكل هؤلاء الذين رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إطلاقها، أخبروا أنها كانت فى سفر، وأن النهى لحقها فى ذلك السفر بعد ذلك فمنع منها، وليس أحد منهم يخبر أنها كانت فى حضر، وكذلك روى عن ابن مسعود، قال‏:‏ كنا نغزو مع النبى صلى الله عليه وسلم وليس لنا نساء، فقلنا‏:‏ يا رسول الله، ألا نستخصى‏؟‏ فنهانا عن ذلك، ورخص لنا أن ننكح بالثوب إلى أجل، من حديث إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس بن أبى حازم، عن ابن مسعود، وأخبر ابن مسعود أن النبى، عليه السلام، إنما كان أباحها لهم فى حال الغزو‏.‏

فأما حديث سبرة الذى فيه إباح النبى، عليه السلام، لها فى حجة الوداع، فخارج عن معانيها كلها؛ لأن فى حديث ابن مسعود أن إباحتها لهم كان فى حال ضرورتهم إليها، حتى سألوه أن يأذن لهم فى الاستخصاء، وحديث سلمة فى غزوة أوطاس وهو وقت ضرورة‏.‏

وأخلق بحديث سبرة الذى فيه أنها كانت فى حجة الوداع أن يكون خطأ؛ لأنه لم يكن لهم حينئذ من الضرورات ما كان لهم فى الغزوات الأخر، وقد اعتبرنا هذا الحرف، فلم نجده إلا فى رواية عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز خاصة‏.‏

فأما عبد العزيز بن الربيع بن سبرة فرواه عن أبيه، وذكر أنه كأن عام الفتح، وقد رواه إسماعيل بن عياش، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، فذكر أن ذلك كان فى فتح مكة، وأنهم شكوا إليه العزبة فى حجة الوداع، فرخص لهم فيها، ومحال أن يشكوا إليه العزبة فى حجة الوداع؛ لأنهم كانوا حجوا بالنساء، وكان تزويج النساء بمكة يمكنهم ولم يكونوا حينئذ كما كانوا فى الغزوات المتقدمة‏.‏

فلما اختلفت المواطن المذكورة فيها الإباحة فى حديث سبرة ارتفع الموطن والوقت، وصار حديثه لا على موطن ولا على وقت، ولكن على النهى المطلق‏.‏

قال غيره‏:‏ روى أهل مكة واليمن عن ابن عباس تحليل المتعة، وروى أنه رجع عنها بأسانيد ضعيفة، وإجازة المتعة عنه أصح، وهو مضهب الشيعة‏.‏

واتفق فقهاء الأمصار من أهل الرأى والأثر على تحريم نكاح المتعة، وشذ زفر عن الفقهاء، فقال‏:‏ إن تزوجها عشرة أيام أو نحوها أو شهرًا، فالنكاح ثابت والشرط باطل، ولا خلاف أن المتعة نكاح إلى أجل لا ميراث فيه، وأن الفرقة تقع فيه عند انقضاء الأجل من غير طلاق، وليس هذا حكم الزوجية عند أحد من الأمة، وقد نزعت عائشة، والقاسم بن محمد فى أن تحريمها ونسخها فى القرآن، وذلك أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين هم لفروجهم حافظون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 5‏]‏ الآية، وليست المتعة نكاحًا ولا ملك يمين‏.‏

وقد روى عن على، وابن مسعود فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما استمتعتم به منهن‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏، قالا‏:‏ ينسخ الطلاق والعدة والميراث المتعة‏.‏

وقال نافع‏:‏ سُئل ابن عمر عن المتعة، فقال‏:‏ حرام، فقيل له‏:‏ إن ابن عباس يفتى بها، قال‏:‏ فهلا يزمزم إذا حرك فاه ولا يتكلم، يزمزم بها فى زمن عمر‏.‏

وقال ابن عمر، وابن الزبير‏:‏ المتعة هى السفاح‏.‏

وقال نافع، عن ابن عمر‏:‏ قال عمر‏:‏ متعتان كانتا على عهد النبى صلى الله عليه وسلم أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما‏:‏ متعة النساء ومتعة الحج‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ فهذا عمر نهى عن المتعة بحضرة أصحاب النبى، عليه السلام، فلم ينكر ذلك عليه منكر، وفى ذلك دليل على متابعتهم له على ما نهى عنه، وذلك دليل على نسخها، ثم هذا ابن عباس يقول‏:‏ إنما أبيحت والنساء قليل، فلما كثرن ارتفع المعنى الذى من أجله أبيحت‏.‏

فإن قيل‏:‏ أليس قد رويتم عن على أن النبى، عليه السلام، حرمها يوم خيبر، فما معنى رواية الربيع بن سبرة أنه حرمها فى حجة الوداع‏؟‏ قيل‏:‏ كانت عادة النبى، عليه السلام، تكرير مثل هذا فى مغازيه، وفى المواضع الجامعة، فذكرها فى حجة الوداع لاجتماع الناس حتى يسمعه من لم يكن سمعه، فأكد ذلك حتى لا تبقى شبهة لأحد يدعى تحليلها، ولأن أهل مكة كانوا يستعملونها كثيرًا‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ والحجة على زفر حديث الربيع بن سبرة، عن أبيه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما نهى عن المتعة قال لهم‏:‏ ‏(‏من كان عنده من هذه النساء شىء فليفارقهن، فإن الله قد حرم المتعة إلى يوم القيامة‏)‏، فدل هذا على أن العقد المتقدم لا يوجب دوام العقد للأبد ولو أوجب دوامه لكان بفسخ الشرط الذى تعاقدا عليه، ولا يفسخ النكاح إذا كان ثبت على صحته وجوازه قبل النهى، ففى أمره إياهم بالمفارقة دليل على أن مثل ذلك العقد لا يجب به ملك بضع، والله أعلم‏.‏

باب عَرْضِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا عَلَى الرَّجُلِ الصَّالِحِ

- فيه‏:‏ أَنَس، جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى الرسُول صلى الله عليه وسلم تَعْرِضُ عَلَيْهِ نَفْسَهَا، قَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَكَ بِى حَاجَةٌ‏؟‏ فَقَالَتْ بِنْتُ أَنَسٍ‏:‏ مَا أَقَلَّ حَيَاءَهَا، وَاسَوْأَتَاهْ، وَاسَوْأَتَاهْ، قَالَ‏:‏ هِىَ خَيْرٌ مِنْكِ، رَغِبَتْ فِى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَعَرَضَتْ نَفْسَهَا عَليهِ‏.‏

- وفيه‏:‏ سَهْلِ، أَنَّ امْرَأَةً عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى النَّبِىِّ عليه السَّلام فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَوِّجْنِيهَا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا عِنْدَكَ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ مَا عِنْدِى شَىْءٌ، قَالَ‏:‏ ‏(‏زوجتكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ مختصرًا‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه جواز عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح وتعريفه برغبتها فيه لصلاحه وفضله، ولعلمه وشرفه، أو لخصلة من خصال الدين، وأنه لا عار عليها فى ذلك ولا غضاضة، بل ذلك زائد فى فضلها، لقول أنس لابنته‏:‏ هى خير منك‏.‏

وفيه‏:‏ أن للرجل الذى تعرض المرأة نفسها عليه ألا ينكحها إلا إذا وجد فى نفسه رغبة فيها، ولذلك صوب النبى صلى الله عليه وسلم النظر فيها وصعده، فلما لم يجد فى نفسه رغبة فيها سكت عن إجابتها‏.‏

وفيه‏:‏ جواز سكوت العالم ومن سئل حاجة إذا لم يرد الإسعاف ولا الإجابة فى المسألة، وأن ذلك أدب فى الرد بالكلام وألين فى صرف السائل‏.‏

وفيه‏:‏ أن سكوت المرأة فى الجماعات لازم لها إذا لم يقم الدليل على أن سكوتها كان لحياء أو لحشمة؛ لأنه كان للمرأة أن تقول‏:‏ يا رسول الله، إنما أرغب فيك ولا أرغب فى غيرك، وكذلك يجب أن يكون سكوت كل من عقد عليه عقد فى جماعة، ولم يمنعه من الإنكار خوف ولا حياء ولا آفة فى فهم ولا سمع أن ذلك العقد لازم له‏.‏

وفيه‏:‏ دليل على جواز استمتاع الرجل بشورة المرأة وبما يشترى لها من صداقها؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏ما تصنع بإزارك‏؟‏ إن لبسته لم يكن عليها منه شىء‏)‏، مع علمه أن النصف لها، فلم يمنعه من الاستمتاع بنصفه الذى وجب لها، وجوز له لبسه أجمع، وإنما منع من ذلك؛ لأنه لم يكن له ثوب غيره، فخشى أن تحتاج إليه المرأة فيبقى عاريًا‏.‏

باب عَرْضِ الرجل ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ عَلَى أَهْلِ الْخَيْرِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىّ عليه السَّلام فَتُوُفِّىَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ أَتَيْتُ عُثْمَانَ ابْنَ عَفَّانَ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ، فَقَالَ‏:‏ سَأَنْظُرُ فِى أَمْرِى، فَلَبِثْتُ لَيَالِىَ ثُمَّ لَقِيَنِى، فَقَالَ‏:‏ قَدْ بَدَا لِى أَنْ لا أَتَزَوَّجَ يَوْمِى هَذَا، قَالَ عُمَرُ‏:‏ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، فَقُلْتُ‏:‏ إِنْ شِئْتَ زَوَّجْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ، فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَىَّ شَيْئًا، فَكُنْتُ أَوْجَدَ عَلَيْهِ مِنِّى عَلَى عُثْمَانَ، فَلَبِثْتُ أيامًا، ثُمَّ خَطَبَهَا النَّبِىّ عليه السَّلام فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ، فَلَقِيَنِى أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ‏:‏ لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَىَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَىَّ حَفْصَةَ، فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ شَيْئًا‏.‏

قَالَ عُمَرُ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ‏:‏ فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِى أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ عَلَىَّ إِلا أَنِّى كُنْتُ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ ذَكَرَهَا، فَلَمْ أَكُنْ لأفْشِىَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ تَرَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبِلْتُهَا‏.‏

- وفيه‏:‏ أُمَّ حَبِيبَةَ بنت أَبِى سفيان، قَالَتْ للنَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ إِنَّا قَدْ تَحَدَّثْنَا أَنَّكَ نَاكِحٌ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِى سَلَمَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَعَلَى أُمِّ سَلَمَةَ‏؟‏ لَوْ لَمْ أَنْكِحْ أُمَّ سَلَمَةَ مَا حَلَّتْ لِى، إِنَّ أَبَاهَا أَخِى مِنَ الرَّضَاعَةِ‏)‏‏.‏

وفى حديث عمر من الفقه الرخصة فى أن يعرض الرجل ابنته على الرجل الصالح رغبة فيه، ولا نقيصة عليه فى ذلك‏.‏

وفيه‏:‏ أن من عرض عليه ما فيه الرغبة فله النظر والاختيار، وعليه أن يخبر بعد ذلك بما عنده؛ لئلا يمنعها من غيره؛ لقول عثمان بعد ليال‏:‏ قد بدا لى ألا أتزوج يومى هذا‏.‏

وفيه‏:‏ الاعتذار لأن عثمان قال‏:‏ لا أريد التزويج يومى هذا، ولم يقل أبو بكر‏:‏ لا أريد التزويج، وقد كان يريده حين قال‏:‏ لو تركها لنكحتها، ولم يقل‏:‏ نعم، ولا لا‏.‏

وفيه‏:‏ الرخصة أن يجد الرجل على صديقه فى الشىء يسأله، فلا يجيبه إليه ولا يعتذر بما يعذره به؛ لأن النفوس جبلت على ذلك، لاسيما إذا عرض عليه ما فيه الغبطة له‏.‏

وقوله‏:‏ وكان وجدى على أبى بكر أشد من وجدى على عثمان، لمعنيين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن أبا بكر لم يرد عليه الجواب‏.‏

والثانى‏:‏ أن أبا بكر أخص بعمر منه بعثمان؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم آخى بين أبى بكر وعمر، فكانت موجدته عليه أكثر لثقته به وإخلاصه له‏.‏

وفيه‏:‏ كتمان السر، فإن أظهره الله أو أظهره صاحبه جاز للذى أسر إليه إظهاره، ألا ترى أن النبى، عليه السلام، لما أظهر تزويجها أعلم أبو بكر عمر بما كان أسر إليه منه، وكذلك فعلت فاطمة فى مرض النبى، عليه السلام، حين أسر إليها أنها أول أهله لحاقًا به، فكتمته حتى توفى، وأسر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حفصة تحريم جاريته مارية، فأخبرت حفصة عائشة بذلك، ولم يكن النبى، عليه السلام، أظهره، فذم الله فعل حفصة وقبول عائشة لذلك، فقال‏:‏ ‏(‏إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 4‏]‏، أى مالت وعدلت عن الحق‏.‏

وفى قول أبى بكر لعمر بعد تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بها‏:‏ لعلك وجدت علىّ، دليل على أن الرجل إذا أتى إلى أخيه ما لا يصلح أن يؤتى إليه من سوء المعاشرة أن يعتذر ويعترف، وأن الرجل إذا وجب عليه الاعتذار من شىء وطمع بشىء تقوى به حجته أن يؤخر ذلك حتى يظفر ببغيته ليكون أبرأ له عند من يعتذر إليه‏.‏

وفى قول عمر لأبى بكر‏:‏ نعم دليل على أن على الإنسان أن يخبر بالحق عن نفسه وإن كان عليه فيه شىء‏.‏

قال المهلب‏:‏ والمعنى الذى أسر أبو بكر، عن عمر، ما أخبره به النبى، عليه السلام، هو أنه خشى أبو بكر أن يذكر ذلك لعمر، ثم يبدو للنبى الإعراض عن نكاحها فيقع فى قلب عمر للنبى صلى الله عليه وسلم مثل ما وقع فى قلبه لأبى بكر‏.‏

وفى قول أبى بكر لعمر‏:‏ كنت علمت أن النبى، عليه السلام، ذكرها، فيه دليل أنه جائز للرجل أن يذكر لأصحابه ولمن يثق برأيه أنه يخطب امرأة قبل أن يظهر خطبتها، وقول أبى بكر‏:‏ لم أكن لأفشى سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدل أنه من ذكر امرأة قبل أن يظهر خطبتها، فإن ذكره فى معنى السر، فإن إفشاء السر فى النكاح وفى غيره من المباح لا يجوز‏.‏

وفيه‏:‏ أن الصديق لا يخطب امرأة علم أن صديقه يريدها لنفسه، وإن كان لم يركن إليها لما يخاف من القطيعة بينهما، ولم تخف القطيعة بين غير الإخوان؛ لأن الاتصال بينهما ضعيف غير اتصال الصداقة فى الله‏.‏

وفى قول أبى بكر‏:‏ لو تركها تزوجتها، دليل أن الخطبة إنما تجوز بعد أن يتركها الخاطب‏.‏

وفيه‏:‏ الرخصة فى تزويج من عرض النبى، عليه السلام، فيها بخطبة أو أراد أن يتزوجها، ألا ترى قول أبى بكر‏:‏ لو تركها تزوجتها، وقد جاء فى خبر آخر الرخصة فى نكاح من عقد النبى صلى الله عليه وسلم فيها النكاح ولم يدخل بها، وأن أبا بكر كرهه ورخص فيه عمر‏.‏

روى داود بن أبى هند، عن عكرمة، قال‏:‏ تزوج النبى صلى الله عليه وسلم امرأة من كندة يقال لها‏:‏ قتيلة، فمات ولم يدخل بها ولا حجبها، فتزوجها عكرمة بن أبى جهل، فغضب أبو بكر، وقال‏:‏ تزوجت من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال عمر‏:‏ ما هى من نسائه وما دخل بها ولا حجبها، ولقد ارتدت مع من ارتد فسكت‏.‏

وفيه‏:‏ أن الأب تخطب إليه بنته الثيب كما تخطب إليه البكر، ولا تخطب إلى نفسها، وأنه يزوجها‏.‏

وفيه‏:‏ فساد قول من قال‏:‏ أن للمرأة البالغة المالكة أمرها تزويج نفسها وعقد النكاح عليها دون وليها، وإبطال قول من قال‏:‏ للبالغ الثيب إنكاح من أحبت دون وليها، وسيأتى بيان ذلك فى باب من قال‏:‏ لا نكاح إلا بولى إن شاء الله‏.‏

وفى تركه أن يأمره باستئمارها، ولم نجد عن عمر أنه استأمرها، دليل أن للرجل أن يزوج ابنته الثيب من غير أن يستأمرها إذا علم أنها لا تكره ذلك، وكان الخاطب لها كفئًا؛ لأن حفصة لم تكن لترغب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأغنى علم عمر عن استئمارها‏.‏

وقوله‏:‏ تأيمت حفصة، أى صارت غير ذات زوج بموت زوجها عنها، والعرب تدعو كل امرأة لا زوج لها وكل رجل لا امرأة له‏:‏ أيمًا، ومنه قول الشاعر‏:‏

فإن تنكحى أنكح وإن تتأيمى *** وإن كنت أفتى منكم أتأيم

باب قَوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 235‏]‏ الآية

وَقَالَ مُجَاهِد، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ ‏(‏يَقُولُ‏:‏ إِنِّى أُرِيدُ التَّزْوِيجَ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّهُ تَيَسَّرَ لِى امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ‏.‏

وقال الْقَاسِمُ‏:‏ يَقُولُ‏:‏ إِنَّكِ عَلَىَّ لَكَرِيمَةٌ، وَإِنِّى فِيكِ لَرَاغِبٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَسَائِقٌ إِلَيْكِ خَيْرًا- أَوْ نَحْوَ هَذَا- وَقَالَ عَطَاءٌ‏:‏ يُعَرِّضُ وَلا يَبُوحُ، يَقُولُ‏:‏ إِنَّ لِى حَاجَةً، وَأَبْشِرِى وَأَنْتِ بِحَمْدِ اللَّهِ نَافِقَةٌ‏.‏

وَتَقُولُ هِىَ‏:‏ قَدْ أَسْمَعُ مَا تَقُولُ، وَلا تَعِدُ شَيْئًا، وَلا يُوَاعِدُ وَلِيُّهَا بِغَيْرِ عِلْمِهَا، وَإِنْ وَاعَدَتْ رَجُلا فِى عِدَّتِهَا، ثُمَّ نَكَحَهَا بَعْدُ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا‏.‏

وقال الْحَسَنُ‏:‏ ‏{‏لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا‏}‏‏:‏ الزِّنَا‏.‏

وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ‏}‏‏:‏ تَنْقَضِىَ الْعِدَّةُ‏.‏

وحرم الله تعالى عقد النكاح فى العدة بقوله‏:‏ ‏(‏ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 235‏]‏، وهذا من المحكم المجتمع على تأويله أن بلوغ أجله انقضاء العدة، وأباح تعالى التعريض فى العدة بقوله‏:‏ ‏(‏ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 235‏]‏ الآية، ولم يختلف العلماء فى إباحة ذلك‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما منع من عقد النكاح فى العدة، والله أعلم؛ لأن ذلك ذريعة إلى المواقعة فى العدة التى هى محبوسة فيها على ماء الميت أو المطلق، كما منع المحرم بالحج من عقد النكاح؛ لأن ذلك داعيه إلى المواقعة، فحرم عليه السبب والذريعة إلى فساد ما هو فيه وموقوف عليه، وأباح التعريض فى العدة خشية أن تفوت نفسها‏.‏

واختلفوا فى ألفاظ التعريض، والمعنى واحد، وقال قتادة، وسعيد بن جبير فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن لا تواعدوهن سرًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 235‏]‏، قال‏:‏ لا يأخذ عهدها فى عدتها ألا تنكح غيره‏.‏

قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ وهذا أحسن من قول من تأول فى قوله‏:‏ ‏(‏ولكن لا تواعدوهن ‏(‏أنه الزنا؛ لأن ما قبل الكلام وما بعده لا يدل عليه، ويجوز فى اللغة أن يسمى الغشيان سرًا، فسمى النكاح سرًا، إذ كان الغشيان يكون فيه كما يسمى التزويج نكاحًا، وهو أشبه فى المعنى؛ لأنه لما أجيز لهم التعريض فى النكاح لم يؤذن لهم فى غيره، فوجب أن يكون كل شىء يجاوز التعريض فهو محظور، والمواعدة تجاوز التعريض، فوسع الله على عباده فى التعريض فى الخطبة لما علم منهم‏.‏

وبلغنى عن الشافعى أنه احتج بهذا التعريض فى القذف، وقال‏:‏ كما لم يجعل التعريض فى هذا الموضع بمنزلة التصريح كذلك لا يجعل التعريض فى القذف بمنزلة التصريح، واحتج بما هو حجة عليه إذ كان التعريض بالنكاح قد فهم عن صاحبه ما أراد، فكذلك ينبغى أن يكون التعريض بالقذف قد فهم عن صاحبه ما أراد، فإذا فهم أنه قاذف حكم عليه بحكم القذف، وينبغى له على قوله هذا أن يزعم أن التعريض بالقذف مباح كما أبيح التعريض بالنكاح، وسيأتى استيعاب الحجة عليه فى كتاب الحدود، إن شاء الله‏.‏

واختلفوا فى الرجل يخطب امرأة فى عدتها جاهلاً ويواعدها، ويعقد بعد العدة، فكان مالك يقول‏:‏ فراقها أحب إلىّ دخل بها أو لم يدخل، وتكون تطليقة واحدة، ويدعها حتى تحل ويخطبها‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ إن صرح بالخطبة وصرحت له بالإجابة، ولم يعقد النكاح حتى تنقضى العدة، فالنكاح ثابت والتصريح لهما مكروه؛ لأن النكاح حادث بعد الخطبة‏.‏

واختلفوا إذا تزوجها فى العدة ودخل بها، فقال مالك، والليث، والأوزاعى‏:‏ يفرق بينهما ولا تحل له أبدًا‏.‏

قال مالك والليث‏:‏ ولا بملك اليمين‏.‏

واحتجوا بأن عمر بن الخطاب، قال‏:‏ لا يجتمعان أبدًا وتعتد منهما جميعًا‏.‏

وقال الثورى، والكوفيون، والشافعى‏:‏ يفرق بينهما، فإذا انقضت عدتها من الأول فلا بأس أن يتزوجها، واحتجوا بإجماع العلماء أنه لو زنى بها لم يحرم عليه تزويجها، فكذلك وطؤه إياها فى العدة، قالوا‏:‏ وهو قول على بن أبى طالب، ذكره عبد الرزاق، وذكر عن ابن مسعود مثله، وعن الحسن أيضًا‏.‏

وذكر عبد الرزاق، عن الثورى، عن الأشعث، عن الشعبى، عن مسروق، أن عمر رجع عن ذلك وجعلهما يجتمعان‏.‏

واختلفوا هل تعتد منهما جميعًا، فروى المدنيون عن مالك أنها تتم بقية عدتها من الأول وتستأنف عدة أخرى من الآخر، روى ذلك عن عمر، وعلى، وهو قول الليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق‏.‏

وروى ابن القاسم، عن مالك، أن عدة واحدة تكون لهما جميعًا، سواء كانت العدة بالحيض أو الحمل أو الشهور، وهو قول الأوزاعى، والثورى، وأبى حنيفة، وحجتهم الإجماع على أن الأول لا ينكحها فى بقية العدة منه، فدل ذلك على أنها فى عدة من الثانى، ولولا ذلك لنكحها فى عدتها منه، وهذا غير لازم؛ لأنه منع الأول من أن ينكحها فى بقية عدتها إنما وجب لما يتلوها من عدة الثانى، وهما حقان قد وجبا عليها لزوجين كسائر حقوق الآدميين لا يدخل أحدهما فى صاحبه‏.‏

باب النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَ لِى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أُرِيتُكْ فِى الْمَنَامِ يَجِىءُ بِكِ الْمَلَكُ فِى سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، فَقَالَ لِى‏:‏ هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَكَشَفْتُ عَنْ وَجْهِكِ الثَّوْبَ، فَإِذَا أَنْتِ هِىَ، فَقُلْتُ‏:‏ إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَنْ سَهْلِ، أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُ لأهَبَ لَكَ نَفْسِى، فَنَظَرَ إِلَيْهَا النَّبِىّ عليه السَّلام فَصَعَّدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا وَصَوَّبَهُ، ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا بأس بالنظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها، وهو قول مالك، والثورى، والكوفيين، والشافعى، وأحمد، وقالوا‏:‏ لا ينظر إلى غير وجهها وكفيها‏.‏

وقال الأوزاعى‏:‏ ينظر إليها ويجتهد وينظر إلى مواضع اللحم، وحجتهم أن النبى صلى الله عليه وسلم نظر إلى المرأة التى وهبته نفسها وأراه الله عائشة فى منامه قبل تزويجه بها‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ ومن حجتهم ما حدثنا سليمان بن شعيب، قال‏:‏ حدثنا يحيى بن حسان، حدثنا أبو شهاب الحناط، عن الحجاج بن أرطاة، عن محمد بن سليمان بن أبى حثمة، قال‏:‏ رأيت محمد بن مسلمة يطارد ثبيتة بنت الضحاك فوق إجار لها ببصره طردًا شديدًا، فقلت‏:‏ أتفعل هذا وأنت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏ سمعت النبى، عليه السلام، يقول‏:‏ ‏(‏إذا ألقى فى قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها‏)‏‏.‏

وروى أبو معاوية، عن عاصم الأحول، عن بكر بن عبد الله، عن المغيرة بن شعبة، قال‏:‏ خطبت امرأة، فقال لى النبى، عليه السلام‏:‏ ‏(‏هل نظرت إليها‏؟‏‏)‏، قلت‏:‏ لا، قال‏:‏ ‏(‏فانظر، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما‏)‏، ففى هذه الأحاديث إباحة النظر إلى وجه المرأة لمن أراد نكاحها‏.‏

ورواه أبو حميد، وأبو هريرة، وجابر، عن النبى، عليه السلام‏.‏

واحتج الشافعى بأن ينظر إليها بإذنها وبغير إذنها إذا كانت مستترة؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏، قال‏:‏ الوجه والكفان، وخالفهم آخرون، وقالوا‏:‏ لا يجوز لمن أراد نكاح امرأة ولا لغيره أن ينظر إليها إلا أن يكون زوجًا لها أو ذا محرم منها، ووجهها وكفاها عورة بمنزلة جسدها، واحتجوا بحديث ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن سلمة بن أبى الطفيل، عن على بن أبى طالب، أن النبى قال له‏:‏ يا على، لا تتبع بالنظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة‏.‏

قالوا‏:‏ فلما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم النظرة الثانية؛ لأنها تكون باختيار الناظر، وخالف بين حكمها وحكم ما قبلها إذا كانت بغير اختيار من الناظر، دل على أنه ليس لأحد أن ينظر إلى وجه امرأة إلا أن تكون زوجة أو ذات محرم‏.‏

واحتج عليهم أهل المقالة الأولى أن الذى أباحه النبى، عليه السلام، فى الآثار الأُول هو النظر للخطبة لا لغير ذلك، وذلك نظر لسبب هو حلال، ألا ترى لو أن رجلاً نظر إلى وجه امرأة لا نكاح بينه وبينها ليشهد عليها أو لها أن ذلك جائز، وكذلك إذا نظر إلى وجهها ليخطبها، فأما المنهى عنه فالنظر لغير الخطبة ولغير ما هو حلال‏.‏

ورأيناهم لا يختلفون فى نظر الرجل إلى صدر الأمة إذا أراد أن يبتاعها أن ذلك له جائز حلال، ولو نظر إليها لغير ذلك كان ذلك عليه حرامًا، فكذلك نظره إلى وجه المرأة إن كان فعل ذلك لمعنى هو حلال فهو غير مكروه‏.‏

وإذا ثبت أن النظر إلى وجه المرأة لخطبتها حلال خرج بذلك حكمه من حكم العورة؛ لأنا رأينا ما هو عورة لا يباح لمن أراد نكاحها النظر إليه، ألا ترى أنه من أراد نكاح امرأة فحرام عليه النظر إلى شعرها أو إلى صدرها أو إلى ما أسفل من ذلك من بدنها، كما يحرم ذلك منها على من لم يرد نكاحها، فلما ثبت أن النظر إلى وجهها حلال لمن أراد نكاحها، ثبت أنه حلال أيضًا لمن لم يرد نكاحها إذا كان لا يقصد بنظره ذلك إلى معنى هو عليه حرام، وقد قال المفسرون فى قوله‏:‏ ‏(‏ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏، أن ذلك المستثنى هو الوجه والكفان‏.‏